خيارات الحكومة اليمنية لمواجهة الإبتزاز الصاروخي للحوثيين
راي اليمن.خاص

لا تزال اليمن، الواقعة على هامش الجغرافيا العالمية، تتصدر مشهد النزاعات الأكثر تعقيدًا في الشرق الأوسط. بلد ممزق بين حكومة شرعية معترف بها دوليًا، وجماعة متمردة تستخدم القوة الصاروخية والطائرات المسيّرة كأدوات ضغط تفاوضي وابتزاز استراتيجي. في هذا السياق، تبرز معادلة اختلال الردع: من يملك زمام المبادرة يرسم قواعد اللعبة، ومن يكتفي برد الفعل، يخسر حتى حق المشاركة فيها.

الصاروخ كأداة ابتزاز استراتيجي
في مقابلة حديثة على قناة "روسيا اليوم"، كشف الدكتور رشاد العليمي، رئيس مجلس القيادة الرئاسي، عن تهديد مباشر من جماعة الحوثيين بقصف مطار عدن، إذا لم تُعد طائرة تابعة للخطوط الجوية اليمنية إلى مطار صنعاء، رغم أن المطار ذاته كان "مهددًا بالقصف الإسرائيلي". وبعد أيام، قصفت إسرائيل بالفعل الطائرة الرابعة في صنعاء، في تطور يعكس سياسة انتحارية تنتهجها جماعة الحوثيين تجاه البلد ومقدراته..

هذا التهديد لم يكن حالة فردية؛ ففي 30 ديسمبر 2020، وقع هجوم صاروخي دامي على مطار عدن بالتزامن مع وصول الحكومة الجديدة، وهو ما أكده تقرير أممي موثق نسب الهجوم إلى مناطق تخضع لسيطرة الحوثيين. كانت الرسالة واضحة: الحوثيون يتحكمون في توقيت الفعل الدموي ، بينما الحكومة محكومة بسيناريوهات رد الفعل المؤجل.

المسيّرات ترسم حدود الجغرافيا الاقتصادية
في أواخر عام 2022، شهدت موانئ تصدير النفط في حضرموت وشبوة – شرايين الاقتصاد اليمني – هجمات بطائرات مسيّرة أطلقها الحوثيون. لم تكن تلك الهجمات مجرد أعمال تخريبية، بل تجسيدًا لاستراتيجية "شل العصب الاقتصادي" للحكومة المعترف بها، عبر حرمانها من عائدات تقدَّر بمليار دولار سنويًا. هذه الضربات الجوية تسببت بانهيار اقتصادي متسارع في مناطق الشرعية وحرمها من قاعدة اقتصادية مستدامه، وأدخلت الاقتصاد المحلي في حالة اختناق مالي ونقدي.

المفارقة أن هذا التحول الاستراتيجي في سلوك الحوثيين والإستعداد لإستخدام الصواريخ بدون ضوابط إنسانية أو أخلاقية لم يُقابل بإجراءات ردع حقيقية. وكأن الحكومة – كما قال توماس فريدمان في سياق آخر – "تُشاهد المباراة من المدرجات بينما يُعاد رسم حدود الملعب أمامها.


الردع المؤجل: فجوة بين الإمكانيات والإرادة
تمتلك الحكومة اليمنية عددًا من عناصر القوة: دعم تحالف عربي، علاقات دبلوماسية متنامية، قدرات عسكرية يمكن تطويرها، وطائرات استطلاع مسيرة قد تسهم في خلق تفوق استخباراتي ميداني. لكن جميع هذه الأدوات تبقى في حالة "تعطيل استراتيجي"، بسبب غياب الإرادة السياسية والرؤية المتكاملة لتفعيلها ضمن استراتيجية ردع شاملة (Comprehensive Deterrence Strategy).

فالردع – وفق النظريات الأمنية الحديثة – لا يقتصر على استخدام السلاح، بل يُبنى على قاعدة تغيير حسابات الخصم ومنعه من الإقدام، لا فقط معاقبته بعد التنفيذ. وفي غياب هذه المنظومة، تبقى الحكومة في موقف دفاعي مستمر، استراتيجيًا ونفسيًا.

الغرب بين الحياد والمصلحة
اليمن ليست مجرد ساحة نزاع داخلي، بل عقدة استراتيجية عند تقاطع مضيق باب المندب والبحر الأحمر، حيث تتقاطع المصالح الغربية مع الطموحات الإيرانية ،. إلا أن المواقف الغربية – حتى اللحظة – لا تزال تميل إلى النمط الإغاثي، دون رؤية أمنية واضحة.

تملك الدول الغربية، خصوصًا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الذي تمر أربعين بالمئه من تجارته عبر البحر الأحمر إمكانيات هائلة ولكن لا يزال ينتهج سياسة ناعمة تجاه الحوثيين الذين يشكلون تهديداً أمنياً دولياً، وكان من لبروكسل وواشنطن تزويد القوات الحكومة اليمنية بأنظمة دفاع جوي وتقنيات متقدمه لمواجهة الطائرات المسيرة وتدريب نخبة من قوات الجيش اليمني طويل الأمد .

إن غياب هذا النوع من الدعم الدولي للحكومة اليمنية يترك الشرعية اليمنية وحيدة في مواجهة ميليشيا مدعومة إقليميًا، في وقت يحتاج فيه اليمن إلى "استثمار أمني طويل الأمد" وليس مجرد تدخلات إغاثية ظرفية.

نحو منظومة ردع ذكي (Smart Deterrence)
إنّ أي استراتيجية للحكومة اليمنية للخروج من مأزق الردع الغائب تبدأ بتفعيل ما هو متاح وتوظيفه ضمن بنية ردع ذكي تأخذ في الاعتبار طبيعة الحوثي وأدواته وبيئته. من هنا، تبرز الحاجة الماسة إلى تفعيل القوة الجوية، لا بمعناها الكلاسيكي فحسب، بل كجزء من هندسة الحرب الإلكترونية التي تعطل أنظمة الحوثيين الموجهة، وتحرمهم من ميزة المبادأة التي لطالما استفادوا منها في ضرب المطارات والمنشآت الحيوية.
ومع تزايد تعقيدات الصراع، تبدو الجبهة المالية لا تقل أهمية عن الجبهة العسكرية. فالحوثيون لا يملكون اقتصادًا بالمعنى المؤسسي، لكنهم يديرون شبكة مالية هجينة تمزج بين الجباية والابتزاز والتحويلات المشبوهة. وهنا، لا يكفي نقل البنك المركزي إلى عدن كخطوة رمزية، بل يجب الذهاب نحو رقابة صارمة على البنوك وشركات الصرافة، ومنع تهريب العملة، وتفعيل العقوبات الدولية بحق الكيانات والأفراد الداعمين للحوثيين، بالتعاون مع مؤسسات دولية كصندوق النقد والبنك الدولي والشركاء الدوليين. 

وفي قلب هذه الاستراتيجية، يجب أن تعود صادرات النفط لتؤدي دورها الحيوي في تثبيت الشرعية لا مجرد دعمها. فالحكومة التي لا تصدر نفطها هي حكومة بلا نبض اقتصادي، كما أشار هيكل في أحد تحليلاته حول "وظائف الدولة في لحظة الاضمحلال". تأمين الموانئ ليس ترفًا سياديًا، بل ضرورة وجودية. لذا، فإن عقد ترتيبات دولية لحماية المنشآت النفطية، وتنويع خطوط التصدير بعيدًا عن الجغرافيا الهشة، ليس خيارًا، بل أحد شروط بقاء الحكومة والقيام بوظائفها.

غير أن هذا كله لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن تحالفات أمنية ذات طابع استراتيجي طويل الأمد. لم تعد وعود الدعم العسكري كافية خاصة من التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات والولايات المتحدة، بل المطلوب هو بناء قدرات يمنية دائمة عبر نقل المعرفة والخبرة والتكنولوجيا، وتطوير شراكات أمنية ذكية تراعي خصوصية الحرب غير المتناظرة التي تخوضها الدولة اليمنية. هذا بالضبط ما يشير إليه توماس فريدمان عندما يقول إن المعركة لم تعد بين جيوش نظامية، بل بين "شبكات" و"هياكل رخوة"، وبالتالي فإن ردعها يتطلب هندسة أمنية جديدة، لا مجرد استيراد حلول جاهزة.

إنّ بناء استراتيجية ردع ذكية لا يعني السعي نحو الحرب، بل تغيير قواعد اللعبة. فكما كتب فريدمان في إحدى مقالاته: "في الشرق الأوسط، إن لم تكتب السيناريو، فستُكتب خارج حبكته". واليمن اليوم في لحظة سينمائية حرجة: إما أن تكتب الحكومة المعترف بها دولياُ سيناريوها بمزيج من الاقتصاد، والأمن، والتحالف، أو تواصل التلاشي في مشهد لا يعترف بالحياد ولا يؤمن بالضعفاء وفي الحالة السورية شاهد حي حيث تلاشت المكونات السياسية السورية المنفية بالخارج وبرزت قوة جديدة في الداخل السوري سيطرت على المشهد بأكمله .

الخيار المر: البقاء أوالتلاشي
 

ليست أزمة الحكومة الشرعية اليوم أزمة صواريخ فحسب، بل أزمة رؤية وإرادة. قوة الحوثيين لا تكمن فقط في ترسانتهم، بل في جرأتهم على الفعل. والحكومة الشرعية مطالبة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بامتلاك المبادرة، وتفعيل منظومة ردع متكاملة لا تكتفي برد الفعل بل تبادر إلى الفعل الاستباقي.

فالاستراتيجية في الشرق الأوسط تُكتب بالدم والدبلوماسية معًا. ومن لا يكتب سيناريو اللعبة، سيجد نفسه خارجها، كما قال فريدمان, وكما أشار هيكل قبل عقود: "الدولة التي تتنازل عن روايتها، تتنازل عن وجودها."


 

متعلقات